فصل: تفسير الآيات رقم (1- 4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


سورة النساء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ‏(‏1‏)‏ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ‏(‏3‏)‏ وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

المراد بالناس‏:‏ الموجودون عند الخطاب من بني آدم، ويدخل من سيوجد بدليل خارجي، وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد، كما غلب الذكور على الإناث في قوله‏:‏ ‏{‏اتقوا رَبَّكُمُ‏}‏ لاختصاص ذلك بجمع المذكر‏.‏ والمراد بالنفس الواحدة هنا‏:‏ آدم‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة، «واحد» بغير هاء على مراعاة المعنى، فالتأنيث باعتبار اللفظ، والتذكير باعتبار المعنى‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ قيل‏:‏ هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام، أي‏:‏ خلقكم من نفس واحدة خلقها أولاً، وخلق منها زوجها، وقيل‏:‏ على خلقكم، فيكون الفعل الثاني داخلاً مع الأوّل في حيز الصلة‏.‏ والمعنى‏:‏ وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها، وهي حواء‏.‏ وقد تقدم في البقرة معنى التقوى، والربّ، والزوج، والبث، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهَا‏}‏ راجع إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس، والزوج‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَثِيراً‏}‏ وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل‏:‏ هو نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ بثاً كثيراً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنِسَاء‏}‏ أي‏:‏ كثيرة، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأوّل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام‏}‏ قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية، وأصله تتساءلون تخفيفاً لاجتماع المثلين‏.‏ وقرأ أهل المدينة، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بإدغام التاء في السين؛ والمعنى‏:‏ يسأل بعضكم بعضاً بالله والرحم، فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال، والمناشدة، فيقولون‏:‏ أسألك بالله والرحم، وأنشدك الله والرحم، وقرأ النخعي، وقتادة، والأعمش، وحمزة‏:‏ ‏{‏والأرحام‏}‏ بالجر‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب‏.‏

وقد اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر، فأما البصريون، فقالوا‏:‏ هي لحن لا تجوز القراءة بها‏.‏ وأما الكوفيون، فقالوا هي قراءة قبيحة‏.‏ قال سيبويه في توجيه هذا القبح‏:‏ إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه‏.‏ وقال الزجاج، وجماعة‏:‏ بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 81‏]‏ وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر، وأنشد‏:‏

فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا *** فاذهب فما بك والأيام من عجب

ومثله قول الآخر‏:‏

تعلق في مثل السوارى سيوفنا *** وما بينها والكعب وهوىً نفانف

بعطف الكعب على الضمير في بينها‏.‏ وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال‏:‏ لو صليت خلف إمام يقرأ‏:‏ «واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام» بالجر، لأخذت نعلي، ومضيت‏.‏ وقد ردّ الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراء الجرّ، فقال‏:‏ ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً، ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر باطلة، يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب، كما تقدم، وكما في قول بعضهم‏:‏

وحسبك والضحاك سيف مهند *** وقول الآخر‏:‏

وقد رام آفاق السماء فلم يجد *** له مصعداً فيها ولا الأرض مقعداً

وقول الآخر‏:‏

ما إن بها ولا الأمور من تلف *** ما حُمَّ من أمر غَيْبِه وَقَعَا

وقول الآخر‏:‏

أمر على الكتيبة لست أدري *** أحتفي كان فيها أم سواها

فسواها في موضع جرّ عطفاً على الضمير في فيها، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وأما قراءة النصب، فمعناها واضح جليّ؛ لأنه عطف الرحم على الاسم الشريف، أي‏:‏ اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فإنها مما أمر الله به أن يوصل وقيل إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله ‏{‏بِهِ‏}‏ كقولك مررت بزيد وعمراً، أي‏:‏ اتقوا الله الذي تساءلون به، وتتساءلون بالأرحام‏.‏ والأوّل أولى‏.‏ وقرأ عبد الله بن يزيد، «والأرحام» بالرفع على الابتداء، والخبر مقدّر، أي‏:‏ والأرحام صلوها، أو والأرحام أهل أن توصل، وقيل‏:‏ إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به، ومنه قول الشاعر‏:‏

إن قوماً منهم عمير وأشبا *** هُ عمير ومنهم السفاح

لجديرون باللقاء إذا ق *** ل أخ النجدة السلاح السلاح

و ‏{‏الأرحام‏}‏ اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع، ولا بين أهل اللغة‏.‏ وقد خصص أبو حنيفة، وبعض الزيدية الرحم بالمحرم، في منع الرجوع في الهبة، مع موافقتهم على أن معناها أعم، ولا وجه لهذا التخصيص‏.‏ قال القرطبي‏:‏ اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرّمة، انتهى‏.‏ وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة‏.‏ والرقيب‏:‏ المراقب، وهي صيغة مبالغة، يقال رقبت أرقب رقبة ورقباناً‏:‏ إذا انتظرت‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَءاتُواْ اليتامى أموالهم‏}‏ خطاب للأولياء، والأوصياء‏.‏ والإيتاء‏:‏ الإعطاء‏.‏ واليتيم‏:‏ من لا أب له‏.‏ وقد خصصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم‏.‏ وقد تقدم تفسير معناه في البقرة مستوفي، وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم، مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتم بالبلوغ مجازاً باعتبار ما كانوا عليه، ويجوز أن يراد باليتامى المعنى الحقيقي، وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء، والأوصياء إليهم من النفقة، والكسوة لا دفعها جميعاً، وهذه الآية مقيدة بالآية الأخرى، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ فلا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مسوغاً لدفع أموالهم إليهم، حتى يؤنس منهم الرشد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب‏}‏ نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموال اليتامى، فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى، ويعوضونه بالرديء من أموالهم، ولا يرون بذلك بأساً وقيل المعنى‏:‏ لا تأكلوا أموال اليتامى، وهي محرّمة خبيثة، وتدعوا الطيب من أموالكم‏.‏

وقيل المراد‏:‏ لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله، والأوّل أولى؛ فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذه مكانه، وكذلك استبداله، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 108‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ وأما التبديل فقد يستعمل كذلك كما في قوله‏:‏ ‏{‏وبدلناهم بجنتيهم جَنَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 16‏]‏ وأخرى بالعكس، كما في قولك بدّلت الحلقة بالخاتم‏:‏ إذا أذبتها، وجعلتها خاتماً، نص عليه الأزهري‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الخلط، فيكون الفعل مضمناً معنى الضم، أي‏:‏ لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، ثم نسخ هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏ وقيل‏:‏ إن «إلى» بمعنى «مع»، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏ والأوّل أولى‏.‏ والحوب‏:‏ الإثم يقال حاب الرجل يحوب حوباً‏:‏ إذا أثم، وأصله الزجر للإبل، فسمي الإثم حوباً لأنه يزجر عنه‏.‏ والحوبة‏:‏ الحاجة‏.‏ والحوب أيضاً‏:‏ الوحشة، وفيه ثلاث لغات‏:‏ ضم الحاء وهي قراءة الجمهور‏.‏ وفتح الحاء، وهي قراءة الحسن، قال الأخفش‏:‏ وهي لغة تميم‏.‏ والثالثة الحاب‏.‏ وقرأ أبيّ بن كعب حاباً على المصدر، كقال قالا‏.‏ والتحوب التحزن، ومنه قول طفيل‏:‏

فذوقوا كما ذقنا غداة مُجّجرٍ *** من الغيظ في أكبادنا والتحوب

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا‏}‏ وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه ولياً لها ويريد أن يتزوجها، فلا يقسط لها في مهرها، أي‏:‏ يعدل فيه، ويعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج، فنهاهم الله أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلى ما هو لهنّ من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهنّ من النساء سواهنّ، فهذا سبب نزول الآية كما سيأتي، فهو نهي يخص هذه الصورة‏.‏ وقال جماعة من السلف‏:‏ إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية، وفي أوّل الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرهم بهذه الآية على أربع، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا ألا يقسطوا في اليتامى، فكذلك يخافون ألا يقسطوا في النساء، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى، ولا يتحرجون في النساء، والخوف من الأضداد، فإن المخوف قد يكون معلوماً، وقد يكون مظنوناً، ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية، فقال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏خِفْتُمْ‏}‏ بمعنى أيقنتم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ‏{‏خِفْتُمْ‏}‏ بمعنى ظننتم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو الذي اختاره الحذاق، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين، والمعنى‏:‏ من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة، فليتركها، وينكح غيرها‏.‏

وقرأ النخعي وابن وثاب‏:‏ ‏"‏ تُقْسِطُواْ ‏"‏ بفتح التاء من قسط‏:‏ إذا جار، فتكون هذه القراءة على تقدير زيادة ‏"‏ لا ‏"‏، كأنه قال‏:‏ وإن خفتم أن تقسطوا‏.‏ وحكى الزجاج أن أقسط يستعمل استعمال قسط، والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل، وقسط بمعنى جار‏.‏

و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَا طَابَ‏}‏ موصولة، وجاء ‏"‏ بما ‏"‏ مكان ‏"‏ من ‏"‏‏.‏ لأنهما قد يتعاقبان، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله‏:‏ ‏{‏والسماء وَمَا بناها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ‏}‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَع‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وقال البصريون‏:‏ إن «ما» تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل، يقال ما عندك‏؟‏ فيقال ظريف وكريم، فالمعنى‏:‏ فانكحوا الطيب من النساء، أي‏:‏ الحلال، وما حرّمه الله، فليس بطيب، وقيل‏:‏ إن «ما» هنا مدّية، أي‏:‏ ما دمتم مستحسنين للنكاح، وضعفه ابن عطية‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إن «ما» ها هنا مصدرية‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا بعيد جداً‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ ‏"‏ فانكحوا منْ طَابَ‏}‏‏.‏ وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة، و«من» في قوله‏:‏ ‏{‏مّنَ النساء‏}‏ إما بيانية، أو تبعيضية، لأن المراد غير اليتائم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مثنى وثلاث وَرُبَاعَ‏}‏ في محل نصب على البدل من «ما» كما قاله أبو علي الفارسي‏.‏ وقيل‏:‏ على الحال، وهذه الألفاظ لا تنصرف للعدل والوصفية، كما هو مبين في علم النحو، والأصل‏:‏ انكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً‏.‏

وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة‏:‏ اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة‏.‏ وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته، أو عين مكانه، أما لو كان مطلقاً، كما يقال‏:‏ اقتسموا الدراهم، ويراد به ما كسبوه، فليس المعنى هكذا‏.‏ والآية من الباب الآخر لا من الباب الأوّل‏.‏ على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كثيراً اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين، وبعضه ثلاثة ثلاثة، وبعضه أربعة أربعة، كان هذا هو المعنى العربيّ، ومعلوم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى، وهم مائة ألف‏.‏ كان المعنى أنهم جاؤوه اثنين اثنين، وهكذا جاءني في القوم ثلاث ورباع، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏أَقِيمُواْ الصلاة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 56‏]‏، ‏{‏أَتَوْا الزكواة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 56‏]‏ ونحوها، فقوله‏:‏ ‏{‏فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ‏}‏ معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، هذا ما تقتضيه لغة العرب‏.‏

فالآية تدلّ على خلاف ما استدلوا بها عليه، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ *تَعْدِلُواْ فواحدة‏}‏ فإنه وإن كان خطاباً للجميع، فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد‏.‏ فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن‏.‏

وأما استدلال من استدّل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة، فكأنه قال‏:‏ انكحوا مجموع هذا العدد المذكور، فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال‏:‏ انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعا كان هذا القول له وجه، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون «أو»، لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني‏.‏ وقرأ النخعي، ويحيى بن وثاب «ثلث وربع» بغير ألف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة‏}‏ فانكحوا واحدة، كما يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فانكحوا مَا طَابَ‏}‏ وقيل‏:‏ التقدير فالزموا، أو فاختاروا واحدة‏.‏ والأول أولى، والمعنى‏:‏ فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القسم، ونحوه، فانكحوا واحدة، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ،

والخبر محذوف‏.‏ قال الكسائي‏:‏ أي فواحدة تقنع‏.‏ وقيل التقدير‏:‏ فواحدة فيها كفاية، ويجوز أن تكون واحدة على قراءة الرفع خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ فالمقنع واحدة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ معطوف على واحدة، أي‏:‏ فانكحوا واحدة، أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من السراري، وإن كثر عددهنّ، كما يفيده الموصول‏.‏ والمراد‏:‏ نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح، وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم، كما يدل على ذلك جعله قسيماً للواحدة في الأمن من عدم العدل، وإسناد الملك إلى اليمين، لكونها المباشرة لقبض الأموال، وإقباضها، ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب، ومنه‏:‏

إذا ما راية نصبت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين

قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏ أي ذلك أقرب إلى ألا تعولوا، أي‏:‏ تجوروا، من عال الرجل يعول‏:‏ إذا مال وجار، ومنه قولهم عال السهم عن الهدف‏:‏ مال عنه، وعال الميزان إذا مال، ومنه‏:‏

قالوا تبعنا رسول الله واطرحوا *** قول الرسول وعالوا في الموازين

ومنه قول أبى طالب‏:‏

بميزان صدق لا يغل شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل

ومنه أيضاً‏:‏

فنحن ثلاثة وثلاث ذود *** لقد عال الزمان على عيالي

والمعنى‏:‏ إن خفتم عدم العدل بين الزوجات، فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور، ويقال عال الرجل يعيل‏:‏ إذا افتقر، وصار عالة، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏، ومنه قول الشاعر‏:‏

وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغنيّ متى يعيل

وقال الشافعي‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏ ألا تكثر عيالكم‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وما قال هذا غيره، وإنما يقال أعال يعيل‏:‏ إذا كثر عياله‏.‏ وذكر ابن العربي أن عال تأتي لسبعة معان‏:‏ الأوّل عال‏:‏ مال‏.‏ الثاني زاد‏.‏ الثالث جار‏.‏ الرابع افتقر الخامس أثقل، السادس قام بمؤونة العيال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وابدأ بمن تعول»، السابع عال‏:‏ غلب، ومنه عيل صبري، قال‏:‏ ويقال أعال الرجل‏:‏ كثر عياله‏.‏ وأما عال بمعنى كثر عياله، فلا يصح، ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي، وكذلك إنكار ابن العربي لذلك، بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد، وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما، والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية‏.‏ وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه‏.‏ وقد حكاه القرطبي عن الكسائي، وأبي عمر الدوري، وابن الأعرابي، وقال أبو حاتم‏:‏ كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا، ولعله لغة‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب‏:‏ سألت أبا عمر الدوري عن هذا، وكان إماماً في اللغة غير مدافع، فقال‏:‏ هي لغة حمير، وأنشد‏:‏

وإن الموت يأخذ كل حي *** بلا شك وإن أمشي وعالا

أي‏:‏ وإن كثرت ماشيته وعياله‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ «أَن لا تعيلوا» قال ابن عطية‏:‏ وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا، وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة‏.‏ وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول‏:‏ عال الرجل إذا كثر عياله، وكفى بهذا‏.‏

وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي، منها عال‏:‏ اشتدّ وتفاقم، حكاه الجوهري، وعال الرجل في الأرض‏:‏ إذا ضرب فيها، حكاه الهروي، وعال‏:‏ إذا أعجز، حكاه الأحمر، فهذه ثلاثة معان غير السبعة والرابع عال كثر عياله، فجملة معاني عال أحد عشر معنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَءاتُواْ النساء صدقاتهن نِحْلَةً‏}‏ الخطاب للأزواج‏.‏ وقيل‏:‏ للأولياء‏.‏ والصدقات بضم الدال جمع صدقة كثمرة، قال الأخفش‏:‏ وبنو تميم يقولون صدقة، والجمع صدقات، وإن شئت فتحت، وإن شئت أسكنت‏.‏ والنحلة بكسر النون وضمها لغتان، وأصلها العطاء نحلت فلاناً‏:‏ أعطيته، وعلى هذا، فهي منصوبة على المصدرية لأن الإيتاء بمعنى الإعطاء‏.‏ وقيل‏:‏ النحلة التدين فمعنى نحلة تديناً، قاله الزجاج، وعلى هذا، فهي منصوبة على المفعول له‏.‏ وقال قتادة‏:‏ النحلة الفريضة، وعلى هذا فهي منصوبة على الحال‏.‏

وقيل‏:‏ النحلة طيبة النفس، قال أبو عبيد‏:‏ ولا تكون النحلة إلا عن طيبة نفس‏.‏ ومعنى الآية على كون الخطاب للأزواج‏:‏ أعطوا النساء اللاتي نكحتموهنّ مهورهنّ التي لهن عليكم عطية، أو ديانة منكم، أو فريضة عليكم، أو طيبة من أنفسكم‏.‏ ومعناها على كون الخطاب للأولياء‏:‏ أعطوا النساء من قراباتكم التي قبضتم مهورهنّ من أزواجهنّ تلك المهور‏.‏ وقد كان الولي يأخذ مهر قريبته في الجاهلية، ولا يعطيها شيئاً، حكى ذلك عن أبي صالح، والكلبي‏.‏ والأوّل أولى، لأن الضمائر من أوّل السياق للأزواج‏.‏ وفي الآية دليل على أن الصداق واجب على الأزواج للنساء، وهو مجمع عليه، كما قال القرطبي، قال‏:‏ وأجمع العلماء أنه لا حدّ لكثيره، واختلفوا في قليله‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ «صدقاتهن» بضم الصاد وسكون الدال‏.‏ وقرأ النخعي، وابن وثاب بضمهما‏.‏ وقرأ الجمهور بفتح الصاد وضم الدال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَئ مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً‏}‏ الضمير في ‏{‏منه‏}‏ راجع إلى الصداق الذي هو واحد الصدقات، أو إلى المذكور، وهو الصدقات، أو هو بمنزلة اسم الإشارة، كأنه قال من ذلك، و‏{‏نفساً‏}‏ تمييز‏.‏ وقال أصحاب سيبويه‏:‏ منصوب بإضمار فعل لا تمييز، أي‏:‏ أعني نفساً‏.‏ والأوّل أولى، وبه قال الجمهور‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن طبن، أي‏:‏ النساء لكم أيها الأزواج، أو الأولياء عن شيء من المهر ‏{‏فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏طِبْنَ‏}‏ دليل على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو طيبة النفس لا مجرد ما يصدر منها من الألفاظ التي لا يتحقق معها طيبة النفس، فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة نفسها لم يحلّ للزوج، ولا للوليّ، وإن كانت قد تلفظت بالهبة، أو النذر، أو نحوهما‏.‏ وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها لنقصان عقولهنّ، وضعف إدراكهنّ، وسرعة انخداعهن، وانجذابهنّ إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب، أو ترهيب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَنِيئاً مَّرِيئاً‏}‏ منصوبان على أنهما صفتان لمصدر محذوف، أي‏:‏ أكلا هنيئاً مريئاً، أو قائمان مقام المصدر، أو على الحال، يقال‏:‏ هناه الطعام والشراب يهنيه، ومرأه وأمرأه من الهنيء، والمريء، والفعل هنأ، ومرأ، أي‏:‏ أتى من غير مشقة، ولا غيظ، وقيل‏:‏ هو الطيب الذي لا تنغيص فيه‏.‏ وقيل‏:‏ المحمود العاقبة الطيب الهضم‏.‏ وقيل‏:‏ مالا إثم فيه، والمقصود هنا أنه حلال لهم خالص عن الشوائب‏.‏ وخص الأكل لأنه معظم ما يراد بالمال وإن كان سائر الانتفاعات به جائزة كالأكل‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ قال‏:‏ آدم ‏{‏وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ قال‏:‏ حواء من قصيري آدم، أي‏:‏ قصيري أضلاعه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مثله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر قال‏:‏ خلقت حواء من خلف آدم الأيسر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال‏:‏ من ضلع الخلف، وهو من أسفل الاضلاع‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ تعاطون به‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع قال‏:‏ تعاقدون وتعاهدون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ يقول أسألك بالله والرحم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام، وصلوها‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً‏}‏ قال‏:‏ حفيظاً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ إن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له، فلما بلغ اليتيم طلب ماله، فمنعه عمه، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَءاتُواْ اليتامى أموالهم‏}‏ يعني الأوصياء، يقول‏:‏ أعطوا اليتامى أموالهم‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب‏}‏ يقول‏:‏ لا تستبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول‏:‏ لا تذروا أموالكم الحلال، وتأكلوا أموالهم الحرام‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، عن مجاهد قال‏:‏ لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدّر لك‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم‏}‏ قال‏:‏ مع أموالكم تخلطونها، فتأكلونها جميعاً ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حُوباً‏}‏ إثماً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في الآية قال‏:‏ كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا يورثون الصغار يأخذه الأكبر، فنصيبه من الميراث طيب، وهذا الذي يأخذ خبيث‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة قال‏:‏ مع أموالكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم، وجعل وليّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ويَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏ قال‏:‏ فخالطوهم‏.‏

وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما‏:‏ أن عروة سأل عائشة عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى‏}‏ قالت‏:‏ يابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في مالها، ويعجبه مالها، وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلى سننهنّ في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ، وأن الناس قد استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله‏:‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ قالت عائشة‏:‏ وقول الله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال، والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها، وجمالها من باقي النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كن قليلات المال، والجمال‏.‏ وأخرج البخاري، عن عائشة‏:‏ أن رجلاً كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عذق، فكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى‏}‏ أحسبه قال‏:‏ كانت شريكته في ذلك العذق، وفي ماله‏.‏ وقد روي هذا المعنى من طرق‏.‏ وأخرج ابن جرير، من طريق العوفي، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ كان الرجل يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى، فنهى الله عن ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ قصر الرجال على أربع نسوة من أجل أموال اليتامى‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى‏}‏ قال‏:‏ كان الرجل يتزوج ما شاء، فقال‏:‏ كما تخافون ألا تعدلوا في اليتامى، فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهنّ، فقصرهم على الأربع‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ كانوا في الجاهلية ينكحون عشراً من النساء الأيامى، وكانوا يعظمون شأن اليتيم، فتفقدوا من دينهم شأن اليتامى، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه في الآية قال‏:‏ كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى، فخافوا ألا تعدلوا في النساء إذا جمعتموهنّ عندكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق محمد بن أبي موسى الأشعري عنه قال‏:‏ فإن خفتم الزنا، فانكحوهن، يقول‏:‏ كما خفتم في أموال اليتامى ألا تقسطوا فيها، فكذلك فخافوا على أنفسكم ما لم تنكحوا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد نحوه‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك‏:‏ ‏{‏مَا طَابَ لَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ما أحلّ لكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن، وسعيد بن جبير مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن عائشة نحوه‏.‏ وأخرج الشافعي، وابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، والنحاس في ناسخه، والدارقطني، والبيهقي، عن ابن عمر‏:‏ أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اختر منهنّ» وفي لفظ‏:‏ «أمسك منهنّ أربعاً، وفارق سائرهن» هذا الحديث أخرجه هؤلاء المذكورون من طرق، عن إسماعيل بن علية، وغندر، وزيد بن زريع، وسعيد بن أبي عروبة، وسفيان الثوري، وعيسى بن يونس، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، والفضل بن موسى، وغيرهم من الحفاظ عن معمر، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، فذكره‏.‏

وقد علل البخاري هذا الحديث، فحكى عنه الترمذي أنه قال‏:‏ هذا حديث غير محفوظ‏.‏ والصحيح ما روي عن شعيب، وغيره، عن الزهري حدثت، عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة، فذكره، وأما حديث الزهري، عن أبيه‏:‏ أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر‏:‏ لأرجمنّ قبرك، كما رجم قبر أبي رغال‏.‏ وقد رواه معمر، عن الزهري مرسلاً، وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلاً‏.‏ قال أبو زرعة‏:‏ وهو أصح‏.‏ ورواه عقيل، عن الزهري‏:‏ بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد قال أبو حاتم‏:‏ وهذا وهم، إنما هو الزهري، عن عثمان بن أبي سويد‏.‏ وقد ساقه أحمد برجال الصحيح، فقال‏:‏ حدثنا إسماعيل، ومحمد بن جعفر قالا‏:‏ حدثنا معمر، عن الزهري قال أبو جعفر في حديثه‏:‏ أخبرنا ابن شهاب، عن سالم عن أبيه أن غيلان، فذكره، وقد روى من غير طريق معمر، والزهري، فأخرجه البيهقي، عن أيوب، عن نافع، وسالم، عن ابن عمر‏:‏ أن غيلان فذكره‏.‏

وأخرج أبو داود وابن ماجه في سننهما عن عمير الأسدي قال‏:‏ أسلمت، وعندي ثمان نسوة، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ اختر منهنّ أربعاً ‏"‏‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ إن إسناده حسن‏.‏ وأخرج الشافعي في مسنده، عن نوفل بن معاوية الديلي قال‏:‏ أسلمت، وعندي خمس نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أمسك أربعاً، وفارق الأخرى ‏"‏ وأخرج ابن ماجه، والنحاس في ناسخه، عن قيس بن الحارث الأسدي قال‏:‏ «أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال‏:‏ ‏"‏ اختر منهنّ أربعاً، وخلّ سائرهنّ، ففعلت ‏"‏‏.‏ وهذه شواهد للحديث الأوّل، كما قال البيهقي‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي في سننه عن الحكم قال‏:‏ أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية يقول‏:‏ إن خفت ألا تعدل في أربع فثلاث، وإلا فثنتين، وإلا فواحدة، فإن خفت ألا تعدل في واحدة، فما ملكت يمينك‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله‏.‏

وأخرج أيضاً، عن الضحاك‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ‏}‏ قال‏:‏ في المجامعة والحبّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ قال‏:‏ السراري‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ ألا تجوروا ‏"‏‏.‏ قال ابن أبي حاتم قال أبي‏:‏ هذا حديث خطأ، والصحيح، عن عائشة موقوف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏5‏)‏ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى‏.‏ وقد تقدّم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءاتُواْ اليتامى أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ فبين سبحانه هاهنا أن السفيه، وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه‏.‏ وقد تقدّم في البقرة معنى السفيه لغة‏.‏

واختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم‏؟‏ فقال سعيد بن جبير‏:‏ هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم‏.‏ قال النحاس، وهذا من أحسن ما قيل في الآية‏.‏ وقال مالك‏:‏ هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم، فيفسدوها، وتبقوا بلا شيء‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم النساء‏.‏ قال النحاس، وغيره‏:‏ وهذا القول لا يصح إنما تقول العرب سفائه أو سفيهات‏.‏ واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين، وهي للسفهاء، فقيل‏:‏ أضافها إليهم؛ لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها، كقوله‏:‏ ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏ أي‏:‏ ليسلم بعضكم على بعض، وليقتل بعضكم بعضاً، وقيل‏:‏ أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل‏.‏ وقيل المراد‏:‏ أموال المخاطبين حقيقة‏.‏ وبه قال أبو موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وقتادة‏.‏ والمراد‏:‏ النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء، والصبيان، ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح المال، ولا يتجنب، وجوه الضرر التي تهلكه، وتذهب به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما‏}‏ المفعول الأوّل محذوف، والتقدير التي جعلها الله لكم، و«قيما» قراءة أهل المدينة، وأبي عامر، وقرأ غيرهم‏:‏ «قياماً» وقرأ عبد الله بن عمر‏:‏ «قواما» والقيام والقوام‏:‏ ما يقيمك، يقال فلان قيام أهله، وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه، أي‏:‏ يصلحه، ولما انكسرت القاف في قوام أبدلوا الواو ياء‏.‏ قال الكسائي والفراء‏:‏ قيماً وقواماً بمعنى قياماً، وهو منصوب على المصدر أي‏:‏ لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم، فتقومون بها قياماً، وقال الأخفش‏:‏ المعنى قائمة بأموركم، فذهب إلى أنها جمع‏.‏ وقال البصريون‏:‏ قيماً جمع قيمة كديمة وديم، أي‏:‏ جعلها الله قيمة للأشياء‏.‏ وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول، وقال‏:‏ هي مصدر، كقيام وقوام‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها صلاح للحال، وثبات له، فأما على قول من قال‏:‏ إن المراد أموالهم على ما يقتضيه ظاهر الإضافة، فالمعنى واضح‏.‏ وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى، فالمعنى أنها من جنس ما تقوم به معايشكم، ويصلح به حالكم من الأموال‏.‏ وقرأ الحسن، والنخعي‏:‏ «اللاتي جعل» قال الفراء‏:‏ الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي، والأموال التي، وكذلك غير الأموال، ذكره النحاس‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وارزقوهم فِيهَا واكسوهم‏}‏ أي‏:‏ اجعلوا لهم فيها رزقاً، أو افرضوا لهم، وهذا فيمن تلزم نفقته، وكسوته من الزوجات، والأولاد، ونحوهم‏.‏ وأما على قول من قال‏:‏ إن الأموال هي أموال اليتامى، فالمعنى اتجروا فيها حتى تربحوا، وتنفقوهم من الأرباح، أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقاً ينفقونه على أنفسهم، ويكتسون به‏.‏

وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على السفهاء، وبه قال الجمهور‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحجر على من بلغ عاقلاً، واستدل بها أيضاً على وجوب نفقة القرابة، والخلاف في ذلك معروف في مواطنه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ قيل‏:‏ ادعوا لهم‏:‏ بارك الله فيكم، وحاطكم، وصنع لكم‏.‏ وقيل معناه‏:‏ عدوهم وعداً حسناً قولوا لهم‏:‏ إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ويقول الأب لابنه‏:‏ مالي سيصير إليك، وأنت إن شاء الله صاحبه، ونحو ذلك‏.‏ والظاهر من الآية ما يصدق عليه مسمى القول الجميل، ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل، والأولاد، أو مع الأيتام المكفولين‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه‏:‏ «خيركم خيركم أهله، وأنا خيركم لأهلي» قوله‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ الابتلاء‏:‏ الاختبار‏.‏ وقد تقدّم تحقيقه‏.‏ وقد اختلفوا في معنى الاختبار، فقيل‏:‏ هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ليعلم بنجابته، وحسن تصرفه، فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح، وآنس منه الرشد، وقيل‏:‏ معنى الاختبار‏:‏ أن يدفع إليه شيئاً من ماله، ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله، وقيل‏:‏ معنى الاختبار‏:‏ أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره، وإن كانت جارية ردّ إليها ما يردّ إلى ربة البيت من تدبير بيتها‏.‏ والمراد ببلوغ النكاح بلوغ النكاح‏:‏ بلوغ الحلم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 59‏]‏ ومن علامات البلوغ الإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة‏.‏ وقال مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما‏:‏ لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة، وهذه العلامات تعم الذكر، والأنثى، وتختص الأنثى بالحبل، والحيض‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ أي‏:‏ أبصرتم، ورأيتم، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏مِن جَانِبِ الطور نَاراً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏‏.‏ قال الأزهري‏:‏ تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً، معناه‏:‏ تبصر‏.‏ وقيل‏:‏ هو هنا بمعنى‏:‏ وجد وعلم، أي‏:‏ فإن وجدتم، وعلمتم منهم رشداً‏.‏ وقراءة الجمهور‏:‏ ‏{‏رشدا‏}‏ بضم الراء وسكون الشين‏.‏ وقرأ ابن مسعود، والسلمي، وعيسى الثقفي بفتح الراء، والشين، قيل‏:‏ هما لغتان، وقيل‏:‏ هو بالضم مصدر رشد، وبالفتح مصدر رشد‏.‏

واختلف أهل العلم في معنى الرشد هاهنا، فقيل‏:‏ الصلاح في العقل والدين، وقيل‏:‏ في العقل خاصة‏.‏ قال سعيد بن جبير، والشعبي‏:‏ إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده، وإن كان شيخاً‏.‏ قال الضحاك‏:‏ وإن بلغ مائة سنة‏.‏ وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر‏.‏ وقال أبو حنيفة، لا يحجر على الحرّ البالغ، وإن كان أفسق الناس، وأشدهم تبذيراً، وبه قال النخعي، وزفر، وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي‏:‏ بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد، فلا بد من مجموع الأمرين، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ، وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم‏.‏

والمراد بالرشد‏:‏ نوعه، وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله، وعدم التبذير بها، ووضعها في مواضعها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ‏}‏ الإسراف في اللغة‏:‏ الإفراط، ومجاوزة الحدّ‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ السرف التبذير، والبدار المبادرة ‏{‏أَن يَكْبَرُواْ‏}‏ في موضع نصب بقوله‏:‏ ‏{‏بداراً‏}‏ أي‏:‏ لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف، وأكل مبادرة لكبرهم، أو لا تأكلوا لأجل السرف، ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين، ومبادرين لكبرهم، وتقولوا ننفق أموال اليتامى‏.‏ فيما نشتهي قبل أن يبلغوا، فينتزعوها من أيدينا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف‏}‏ بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى، فأمر الغنيّ بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه، وعدم تناوله منه، وسوّغ للفقير أن يأكل بالمعروف‏.‏

واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو‏؟‏ فقال قوم‏:‏ هو القرض إذا احتاج إليه، ويقضي متى أيسر الله عليه، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وعبيدة السلماني، وابن جبير، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، والأوزاعي، وقال النخعي، وعطاء، والحسن، وقتادة‏:‏ لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف، وبه قال جمهور الفقهاء‏.‏ وهذا بالنظم القرآني ألصق، فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض‏.‏ والمراد بالمعروف‏:‏ المتعارف به بين الناس، فلا يترفه بأموال اليتامى، ويبالغ في التنعم بالمأكول، والمشروب، والملبوس، ولا يدع نفسه عن سدّ الفاقة، وستر العورة‏.‏ والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب، والجدّ، ووصيهما‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ المراد بالآية‏:‏ اليتيم إن كان غنياً، وسع عليه، وعفّ من ماله، وإن كان فقيراً كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له، وهذا القول في غاية السقوط‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فإذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا حصل مقتضى الدفع، فدفعتم إليهم أموالهم، فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم، وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم، وقيل‏:‏ إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم، وقيل‏:‏ هو على ردّ ما استقرضه إلى أموالهم، وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم، وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد، والدفع للجميع إليهم بعد الرشد‏:‏ ‏{‏وكفى بالله حَسِيباً‏}‏ أي‏:‏ حاسباً لأعمالكم شاهداً عليكم في كل شيء تعملونه، ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم، وفيه وعيد عظيم، والباء زائدة، أي‏:‏ كفى الله‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم‏}‏ يقول لا تعمد إلى مالك، وما خولك الله، وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك، أو بنتك، ثم تضطر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك، وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم، ورزقهم، ومؤونتهم‏.‏

قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قَياما‏}‏ يعني‏:‏ قوامكم من معايشكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه من طريق العوفي في الآية يقول‏:‏ لا تسلط السفيه من ولدك على مالك، وأمره أن يرزقه منه، ويكسوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ هم بنوك، والنساء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها» وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال‏:‏ هم الخدم، وهم شياطين الإنس‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن مسعود قال‏:‏ هم النساء، والصبيان‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن حضرمي‏:‏ أن رجلاً عمد، فدفع ماله إلى امرأته، فوضعته في غير الحق، فقال الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ هم اليتامى والنساء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن عكرمة قال‏:‏ هو مال اليتيم، يكون عندك، يقول لا تؤتوه إياه، وأنفق عليه حتى يبلغ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وارزقوهم‏}‏ يقول‏:‏ أنفقوا عليهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ قال‏:‏ أمروا أن يقولوا لهم قولاً معروفاً في البرّ، والصلة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ قال‏:‏ عدة تعدونهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ يعني‏:‏ اختبروا اليتامى عند الحلم ‏{‏فإن آنستم‏}‏ عرفتم ‏{‏مّنْهُمْ رُشْداً‏}‏ في حالهم، والإصلاح في أموالهم‏:‏ ‏{‏فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً‏}‏ يعني تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ، فتحول بينه، وبين ماله‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره، عن عائشة قالت‏:‏ أنزلت هذه الآية في وليّ اليتيم‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف‏}‏ بقدر قيامه عليه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ‏}‏ قال بغناه‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف‏}‏ قال‏:‏ يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ هو القرض‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبيهقي، عن ابن عباس قال‏:‏ إن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن، وأخذ من فضل القوت، ولا يجاوزه، وما يستر عورته من الثياب، فإن أيسر قضاه، وإن أعسر، فهو في حل‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة وليّ اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت‏.‏ وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، عن ابن عمرو‏:‏ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ليس لي مال، ولي يتيم فقال‏:‏ «» كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذر، ولا متأثل مالاً، ومن غير أن تقي مالك بماله «وأخرج أبو داود، والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف‏}‏ قال‏:‏ نسختها ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏8‏)‏ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى، وصله بأحكام المواريث، وكيفية قسمتها بين الورثة‏.‏ وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال، ولم يقل للرجال والنساء نصيب، للإيذان بأصالتهنّ في هذا الحكم، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏مّمَّا تَرَكَ‏}‏ بإعادة الجار، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ راجع إلى المبدل منه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نَصِيباً‏}‏ منتصب على الحال، أو على المصدرية، أو على الاختصاص، وسيأتي ذكر السبب في نزول هذه الآية إن شاء الله، وقد أجمل الله سبحانه في هذه المواضع قدر النصيب المفروض، ثم أنزل قوله‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ فبين ميراث كل فرد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى‏}‏ المراد بالقرابة هنا‏:‏ غير الوارثين، وكذا اليتامى، والمساكين، شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منها رزق، فيرضخ لهم المتقاسمون شيئاً منها‏.‏ وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة، وأن الأمر للندب‏.‏ وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ والأوّل أرجح، لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال إنها منسوخة بآية المواريث، إلا أن يقولوا إن أولى القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة، وهو معنى الأمر الحقيقي، فلا يصار إلى الندب إلا لقرينة، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل‏:‏ راجع إلى ما ترك‏.‏ والقول المعروف‏:‏ هو القول الجميل الذي ليس فيه منّ بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ‏}‏ هم الأوصياء، كما ذهب إليه طائفة من المفسرين، وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذين في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام، وأولاد الناس، وإن لم يكونوا في حجورهم؛ وقال آخرون‏:‏ إن المراد بهم‏:‏ من يحضر الميت عند موته، أمروا بتقوى الله، بأن يقولوا للمحتضر قولاً سديداً من إرشادهم إلى التخلص عن حقوق الله، وحقوق بني آدم، وإلى الوصية بالقرب المقرّبة إلى الله سبحانه، وإلى ترك التبذير بماله، وإحرام ورثته، كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم، فقراء عالة يتكففون الناس وقال ابن عطية‏:‏ الناس صنفان يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدّم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مفلسين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وهذا التفصيل صحيح‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ تَرَكُواْ‏}‏ صلة الموصول، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَتَّقُواّ‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما قبلها‏.‏ والمعنى‏:‏ وليخش الذين صفتهم، وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم، وكاسبهم، ثم أمرهم بتقوى الله، والقول السديد للمحتضرين، أو لأولادهم من بعدهم على ما سبق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى‏}‏ استئناف يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء، والأوصياء، وانتصاب قوله‏:‏ ‏{‏ظُلْماً‏}‏ على المصدرية، أي‏:‏ أكل ظلم، أو على الحالية، أي‏:‏ ظالمين لهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً‏}‏ أي‏:‏ ما يكون سبباً للنار، تعبيراً بالمسبب عن السبب، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَيَصْلَوْنَ‏}‏ قراءة عاصم، وابن عامر بضم الياء على ما لم يسم فاعله‏.‏ وقرأ أبو حيوة بضم الياء، وفتح الصاد، وتشديد اللام من التصلية بكثرة الفعل مرة بعد أخرى‏.‏ وقرأ الباقون بفتح الياء من صلى النار يصلاها، والصلى هو‏:‏ التسخن بقرب النار، أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد‏:‏

لم أكن من جناتها علم الل *** ه وإني لحرّها اليوم صالي

والسعير‏:‏ الجمر المشتعل‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، ولا الصغار حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له‏:‏ أوس بن ثابت، وترك ابنتين، وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه، وهما عصبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذا ميراثه كله، فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، فأرسل إليهما رسول الله فقال‏:‏ «لا تحركا من الميراث شيئاً، فإنه قد أنزل عليّ شيء احترت فيه أن للذكر، والأنثى نصيباً»، ثم نزل بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏، ثم نزل‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ فدعا بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة في الآية قال‏:‏ نزلت في أم كلثوم ابنة أم كحلة، أو أم كجَّة، وثعلبة بن أوس، وسويد، وهم من الأنصار، كان أحدهم زوجها، والآخر عم ولدها، فقالت‏:‏ يا رسول الله توفي زوجي، وتركني وابنته، فلم نورث من ماله، فقال عمّ ولدها‏:‏ يا رسول الله لا يركب فرساً، ولا ينكى عدواً ويكسب عليها، ولا يكتسب، فنزلت‏.‏

وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَضَرَ القسمة‏}‏ قال‏:‏ هي محكمة، وليست بمنسوخة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن خطاب بن عبد الله في هذه الآية قال‏:‏ قضى بها أبو موسى‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في الآية قال‏:‏ هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، عن الحسن، والزهري قالا‏:‏ هي محكمة ما طابت به أنفسهم‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، والحاكم وصححه، عن ابن عباس قال‏:‏ يرضخ لهم فإن كان في ماله تقصير اعتذر إليهم، فهو قولاً معروفاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن عائشة أنها لم تنسخ‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم‏:‏ أن هذه الآية منسوخة بآية الميراث‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ هي منسوخة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ إن كانوا كباراً يرضخوا، وإن كانوا صغاراً اعتذروا إليهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ‏}‏ قال‏:‏ هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته، فيسمعه يوصي وصية تضرّ بورثته، فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه، ويسدده للصواب، ولينظر لورثته، كما يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة‏.‏ وقد روي نحو هذا من طرق‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والطبراني، وابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم، عن أبي برزة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً،» فقيل‏:‏ يا رسول الله من هم‏؟‏ قال‏:‏ «ألم تر أن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً‏}‏» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسرى به قال‏:‏ «نظرت فإذا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار، فيقذف في فيّ أحدهم حتى يخرج من أسافلهم، ولهم جؤار، وصراخ، فقلت‏:‏ يا جبريل من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء‏:‏ ‏{‏الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً‏}‏» وأخرج ابن جرير، عن زيد بن أسلم قال‏:‏ هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم، ويأكلون أموالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏11‏)‏ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ الآية، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض، وقد كان هذا العلم من أجلّ علوم الصحابة، وأكثر مناظراتهم فيه، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم‏}‏ أي‏:‏ في بيان ميراثهم‏.‏ وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا‏؟‏ فقالت الشافعية‏:‏ إنهم يدخلون مجازاً لا حقيقة، وقالت الحنفية‏:‏ إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب، ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافراً، ويخرج بالسنة، وكذلك يدخل القاتل عمداً، ويخرج أيضاً بالسنة والإجماع، ويدخل فيه الخنثى‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول، فإن بال منهما، فمن حيث سبق، فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما، فله نصف نصيب الذكر، ونصف نصيب الأنثى‏.‏ وقيل‏:‏ يعطى أقلّ النصيبين، وهو نصيب الأنثى، قاله يحيى بن آدم، وهو قول الشافعي‏.‏ وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف، والهجرة، والمعاقدة‏.‏ وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين، للحديث الثابت في الصحيحين، وغيرهما بلفظ‏:‏ «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر» إلا إذا كان ساقطاً معهم، كالأخوة لأم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين‏}‏ جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد، فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم‏:‏ ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين‏.‏ والمراد‏:‏ حال اجتماع الذكور والإناث، وأما حال الانفراد، فللذكر جميع الميراث، وللأنثى النصف، وللاثنتين فصاعداً الثلثان‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ‏}‏ أي‏:‏ فإن كنّ الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر، أو البنات، أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين، أي‏:‏ زائدات على اثنتين على أن فوق صفة لنساء، أو يكون خبراً ثانياً لكان‏:‏ ‏{‏فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ‏}‏ الميت المدلول عليه بقرينة المقام‏.‏

وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً، ولم يسم للاثنتين فريضة، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما، فذهب الجمهور إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين‏.‏

وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف، احتج الجمهور بالقياس على الأختين، فإن الله سبحانه قال في شأنهما‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين، كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين، وقيل‏:‏ في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش، والمبرد‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط؛ لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضاً للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين، وابناً فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف‏}‏ كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين‏.‏

وقيل‏:‏ إن ‏{‏فوق‏}‏ زائدة، والمعنى‏:‏ وإن كنّ نساء اثنتين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاضربوا فَوْقَ الأعناق‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏ أي‏:‏ الأعناق، ورد هذا النحاس، وابن عطية، فقالا‏:‏ هو خطأ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولأن قوله‏:‏ ‏{‏فَوْقَ الأعناق‏}‏ هو الفصيح، وليست ‏{‏فوق‏}‏ زائدة، بل هي محكمة المعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة‏:‏ اخفض عن الدماغ، وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال‏.‏ انتهى‏.‏ وأيضاً لو كان لفظ ‏{‏فوق‏}‏ زائداً، كما قالوا لقال، فلهما ثلثا ما ترك‏.‏ ولم يقل، فلهن ثلثا ما ترك، وأوضح ما يحتج به الجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في سننه، عن جابر قال‏:‏ جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال‏:‏ ‏"‏ يقضي الله في ذلك ‏"‏، فنزلت آية الميراث‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم‏}‏ الآية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال‏:‏ ‏"‏ أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي، فهو لك ‏"‏ أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر‏.‏ قال الترمذي‏:‏ ولا يعرف إلا من حديثه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف‏}‏ قرأ نافع، وأهل المدينة‏:‏ «واحدةٌ» بالرفع على أن كان تامة بمعنى‏:‏ فإن وجدت واحدة، أو حدثت واحدة‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب، قال النحاس‏:‏ وهذه قراءة حسنة، أي‏:‏ وإن كانت المتروكة، أو المولودة واحدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلأِبَوَيْهِ لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس‏}‏ أي‏:‏ لأبوي الميت، وهو‏:‏ كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه و‏{‏لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏وَلاِبَوَيْهِ‏}‏ بتكرير العامل للتأكيد، والتفصيل‏.‏ وقرأ الحسن، ونعيم بن ميسرة‏:‏ «السدس» بسكون الدال، وكذلك قرأ ‏"‏ الثلث ‏"‏، والربع إلى العشر بالسكون، وهي لغة بني تميم، وربيعة، وقرأ الجمهور بالتحريك ضماً، وهي لغة أهل الحجاز، وبني أسد في جميعها‏.‏ والمراد بالأبوين‏:‏ الأب والأم، والتثنية على لفظ الأب للتغليب‏.‏

وقد اختلف العلماء في الجد، هل هو بمنزلة الأب، فتسقط به الأخوة أم لا‏؟‏ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته، فقال بقول أبي بكر ابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعائشة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعطاء، وطاوس، والحسن، وقتادة، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وإسحاق، واحتجوا بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم‏}‏ ‏[‏الأعراف؛ 26، 27، 31، 35‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ارموا يا بني إسماعيل ‏"‏ وذهب علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت، وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الإخوة لأبوين أو لأب، ولا ينقص معهم من الثلث، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد، ومالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد، والشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ يشرك بين الجد، والإخوة إلى السدس، ولا ينقص من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو‏:‏ قول ابن أبي ليلى، وطائفة‏.‏ وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة‏.‏ وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب شيئاً، وأجمع العلماء على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدّة أم الأمّ‏.‏

واختلفوا في توريث الجدة، وابنها حيّ، فروي عن زيد بن ثابت، وعثمان، وعلي أنها لا ترث، وابنها حيّ، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي‏.‏ وروي عن عمر وابن مسعود، وأبي موسى‏:‏ أنها ترث معه‏.‏ وروي أيضاً، عن عليّ، وعثمان، وبه قال شريح، وجابر بن زيد، وعبيد الله بن الحسن، وشريك، وأحمد، وإسحاق وابن المنذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ الولد يقع على الذكر والأنثى، لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد، وحده أو مع الأنثى منهم، فليس للجد إلا السدس، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض، وهو عصبة فيما عدا السدس، وأولاد ابن الميت كأولاد الميت‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ‏}‏ أي‏:‏ ولا ولد ابن لما تقدّم من الإجماع ‏{‏وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ‏}‏ منفردين، عن سائر الورثة، كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين، أما لو كان معهما أحد الزوجين، فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين‏.‏ وروي عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين، وهو يستلزم تفضيل الأمّ على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أن أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السدس‏}‏ إطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما‏.‏

وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأم إلى السدس، إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب‏.‏ وأجمعوا أيضاً على أن الأختين فصاعداً، كالأخوين في حجب الأم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم‏:‏ «يوصى» بفتح الصاد‏.‏ وقرأ الباقون بكسرها، واختار الكسر أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وتصديق ذلك قوله‏:‏ ‏{‏يُوصِينَ‏}‏ و‏{‏توصون‏}‏‏.‏

واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدماً عليها بالإجماع، فقيل‏:‏ المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما، وقيل‏:‏ لما كانت الوصية أقل لزوماً من الدين قدّمت اهتماماً بها وقيل‏:‏ قدّمت لكثرة وقوعها، فصارت كالأمر اللازم لكل ميت وقيل‏:‏ قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وقيل‏:‏ لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت، بخلاف الدين، فإنه ثابت مؤدي ذكر أو لم يذكر وقيل‏:‏ قدّمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فربما يشق على الورثة إخراجها، بخلاف الدين، فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه، وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مُضَارّ‏}‏ كما سيأتي إن شاء الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً‏}‏ قيل‏:‏ خبر قوله‏:‏ ‏{‏أيهم‏}‏ مقدر أي‏:‏ هم المقسوم عليهم، وقيل‏:‏ إن الخبر قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْرُونَ‏}‏ وما بعده ‏{‏وَأَقْرَبَ‏}‏ خبر قوله‏:‏ ‏{‏أَيُّهُم‏}‏ و‏{‏نَفْعاً‏}‏ تمييز، أي‏:‏ لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم، والصدقة عنكم، كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ أو ولد صالح يدعو له ‏"‏ وقال ابن عباس، والحسن‏:‏ قد يكون الابن أفضل، فيشفع في أبيه‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه‏.‏

وقيل المراد‏:‏ النفع في الدنيا، والآخرة، قاله ابن زيد، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم، أمن أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم نفعاً، أو من ترك الوصية، ووفر عليكم عرض الدنيا‏؟‏ وقوى هذا صاحب الكشاف، قال‏:‏ لأن الجملة اعتراضية، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه، ويناسبه قوله‏:‏ ‏{‏فَرِيضَةً مّنَ الله‏}‏ نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ‏}‏ يفرض عليكم‏.‏ وقال مكي، وغيره‏:‏ هي حال مؤكدة، والعامل يوصيكم‏.‏ والأوّل أولى ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بقسمة المواريث ‏{‏حَكِيماً‏}‏ حكم بقسمتها، وبينها لأهلها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏عَلِيماً‏}‏ بالأشياء قبل خلقها ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما يقدّره ويمضيه منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ‏}‏ الخطاب هنا للرجال‏.‏ والمراد بالولد ولد الصلب، أو ولد الولد لما قدمنا من الإجماع ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ‏}‏، وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف، ومع وجوده، وإن سفل الربع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ‏}‏ الخ الكلام فيه، كما تقدم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم‏}‏ هذا النصيب مع الولد، والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات، ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك، والكلام في الوصية، والدين، كما تقدّم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة‏}‏ المراد بالرجل الميت، و‏{‏يُورَثُ‏}‏ على البناء للمفعول من ورث لا من أورث، وهو خبر كان و‏{‏كلالة‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يُورَثُ‏}‏ أي‏:‏ يورث حال كونه ذا كلالة، أو على أن الخبر كلالة، ويورث صفة لرجل، أي‏:‏ إن كان رجل يورث ذا كلالة ليس له ولد، ولا والد، وقريء ‏{‏يُورَثُ‏}‏ مخففاً، ومشدداً، فيكون كلالة مفعولاً، أو حالاً، والمفعول محذوف، أي‏:‏ يورث، وأريد حال كونه ذا كلالة، أو يكون مفعولاً له، أي‏:‏ لأجل الكلالة‏.‏ والكلالة مصدر من تكلله النسب، أي‏:‏ أحاط به، وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس‏.‏ وهو الميت الذي لا ولد له، ولا والد، هذا قول أبي بكر الصديق، وعمر، وعليّ، وجمهور أهل العلم، وبه قال صاحب كتاب العين وأبي منصور اللغوي، وابن عرفة، والقتيبي، وأبو عبيد، وابن الأنباري‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه إجماع‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وبه يقول أهل المدينة، والكوفة، والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور الخلف، والسلف بل جميعهم‏.‏ وقد حكى الإجماع غير واحد، وورد فيه حديث مرفوع‏.‏ انتهى‏.‏ وروى أبو حاتم، والأثرم، عن أبي عبيدة أنه قال‏:‏ الكلالة كل من لم يرثه أب، أو ابن، أو أخ، فهو عند العرب كلالة‏.‏

قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب، والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، وما يروى عن أبي بكر، وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة، فقد رجعا عنه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الكلالة‏:‏ الحيّ، والميت جميعاً، وإنما سموا القرابة كلالة؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه، وليسوا منه، ولا هو منهم، بخلاف الابن، والأب، فإنهما طرفان له، فإذا ذهبا تكلله النسب‏.‏ وقيل‏:‏ إن الكلالة مأخوذة من الكلال، وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد، وإعياء‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ إن الكلالة بنو العم الأباعد‏.‏ وبالجملة فمن قرأ‏:‏ ‏{‏يُورَثُ كلالة‏}‏ بكسر الراء مشددة، وهو بعض الكوفيين، أو مخففة، وهو الحسن، وأيوب جعل الكلالة القرابة‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏يُورَثُ‏}‏ بفتح الراء، وهم الجمهور احتمل أن يكون الكلالة الميت، واحتمل أن يكون القرابة‏.‏ وقد روي عن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والشعبي أن الكلالة ما كان سوى الولد، والوالد من الورثة‏.‏ قال الطبري‏:‏ الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده، ووالده، لصحة خبر جابر فقلت‏:‏ يا رسول الله إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله‏؟‏ قال‏:‏ «لا» انتهى‏.‏ وروي عن عطاء أنه قال‏:‏ الكلالة المال‏.‏ قال ابن العربي وهذا قول ضعيف لا وجه له‏.‏ وقال صاحب الكشاف‏:‏ إن الكلالة تنطلق على ثلاثة‏:‏ على من لم يخلف ولداً، ولا والداً، وعلى من ليس بولد، ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد‏.‏ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَو امرأة‏}‏ معطوف على رجل مقيد بما قيد به، أي‏:‏ أو امرأة تورث كلالة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ‏}‏ قرأ سعد بن أبي وقاص من أمّ‏.‏ وسيأتي ذكر من أخرج ذلك عنه‏.‏ قال القرطبي‏:‏ أجمع العلماء أن الإخوة ها هنا هم الإخوة لأم قال‏:‏ ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب، والأم، أو للأب ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ هم الإخوة لأبوين، أو لأب، وأفرد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ‏}‏ لأن المراد كل واحد منهما، كما جرت بذلك عادة العرب، إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم، فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفرداً، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وقد يذكرونه مثنى، كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏ وقد قدمنا في هذا كلاماً أطول من المذكور هنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث‏}‏ الإشارة بقوله‏:‏ «من ذلك» إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ‏}‏ أي‏:‏ أكثر من الأخ المنفرد، أو الأخت المنفردة بواحد، وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعداً، ذكرين أو أنثيين، أو ذكراً، وأنثى‏.‏ وقد استدل بذلك على أن الذكر، كالأنثى من الإخوة لأم؛ لأن الله شرّك بينهم في الثلث، ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى، كما ذكره في البنين، والإخوة لأبوين، أو لأب‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وهذا إجماع‏.‏ ودلت الآية على أن الإخوة لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين، أو لأب، وذلك في المسألة المسماة بالحمارية، وهي إذا تركت الميتة زوجاً وأماً وأخوين لأمّ، وإخوة لأبوين، فإن للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوين لأم الثلث، ولا شيء للإخوة لأبوين‏.‏ ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم، وهو كون الميت كلالة، ويؤيد هذا حديث‏:‏ ‏"‏ ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي، فلأولي رجل ذكر ‏"‏ وهو في الصحيحين، وغيرهما، وقد قررنا دلالة الآية، والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها‏:‏ «المباحث الدرية في المسألة الحمارية»‏.‏ وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة، فمن بعدهم معروف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ الكلام فيه، كما تقدم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مُضَارّ‏}‏ أي‏:‏ يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار، كأن يقرّ بشيء ليس عليه، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة‏.‏ أو يوصي لوارث مطلقاً، أو لغيره بزيادة على الثلث، ولم تجزه الورثة، وهذا القيد أعني قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مُضَارّ‏}‏ راجع إلى الوصية، والدين المذكورين، فهو قيد لهما، فما صدر من الإقرارات بالديون، أو الوصايا المنهي عنها له، أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته، فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء، لا الثلث، ولا دونه‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا القيد أعني عدم الضرار هو قيد لجميع ما تقدّم من الوصية والدين‏.‏ قال أبو السعود في تفسيره‏:‏ وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَصِيَّةً مّنَ الله‏}‏ نصب على المصدر، أي‏:‏ يوصيكم بذلك وصية من الله كقوله‏:‏ ‏{‏فَرِيضَةً مّنَ الله‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ يصح أن يعمل فيها مضار‏.‏ والمعنى‏:‏ أن يقع الضرر بها، أو بسببها، فأوقع عليها تجوزاً، فتكون ‏{‏وصية‏}‏ على هذا مفعولاً بها؛ لأن الاسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال، أو لكونه منفياً معنى، وقرأ الحسن‏:‏ ‏"‏ وَصِيَّةً مّنَ الله ‏"‏ بالجرّ على إضافة اسم الفاعل إليها، كقوله يا سارق الليلة أهل الدار‏.‏ وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة الفرائض، وأن كل وصية من عباده تخالفها، فهي مسبوقة بوصية الله، وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض، أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ‏}‏ إلى الأحكام المتقدمة، وسماها حدوداً لكونها لا تجوز مجاوزتها، ولا يحلّ تعديها ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في قسمة المواريث، وغيرها من الأحكام الشرعية، كما يفيده عموم اللفظ‏:‏ ‏{‏فدخله جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ وهكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر ‏{‏ندخله‏}‏ بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ أي‏:‏ وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن جابر قال‏:‏ عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله‏؟‏ فنزلت‏.‏ وقد قدّمنا أن سبب النزول سؤال امرأة سعد بن الربيع‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال‏:‏ كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، ولا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها‏:‏ أم كجة، وترك خمس جوار، فأخذ الورثة ماله، فشكت ذلك أمّ كجَّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين‏}‏ ثم قال في أمّ كجة‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ‏}‏‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، والحاكم، والبيهقي، عن ابن مسعود قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب إذا سلك بنا طريقاً، فاتبعناه، وجدناه سهلاً، وإنه سئل عن امرأة، وأبوين، فقال‏:‏ للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي، عن زيد بن ثابت نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان، فقال‏:‏ إن الأخوين لا يردان الأمّ عن الثلث قال الله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ‏}‏ والأخوان ليس بلسان قومك إخوة، فقال عثمان‏:‏ لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي، ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس‏.‏ وأخرج الحاكم والبيهقي في سننه، عن زيد بن ثابت؛ أنه قال‏:‏ إن العرب تسمي الأخوين إخوة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن الجارود، والدارقطني، والبيهقي في سننه عن علي قال‏:‏ إنكم تقرؤون هذه الآية‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأمّ يتوارثون دون بني العلات‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏آبائكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً‏}‏ يقول‏:‏ أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه شفع المؤمنين بعضهم في بعض‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً‏}‏ قال‏:‏ في الدنيا‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والدارمي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقرأ‏:‏ «وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمَّ‏}‏‏.‏ وأخرج البيهقي، عن الشعبي قال‏:‏ ما ورث أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإخوة لأم مع الجدّ شيئاً قط، وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن شهاب قال‏:‏ قضى عمر أن ميراث الاخوة لأمّ بينهم للذكر مثل الأنثى، قال‏:‏ ولا أرى عمر قضي بذلك حتى علمه من رسول الله، ولهذه الآية التي قال الله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وعبد ابن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس قال‏:‏ الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مُضَارّ‏}‏‏.‏ وقد رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه مرفوعاً‏.‏ وفي إسناده عمر بن المغيرة أبو حفص المصيصي‏.‏ قال أبو القاسم بن عساكر‏:‏ ويعرف بمفتي المساكين، وروى عنه غير واحد من الأئمة، قال فيه أبو حاتم الرازي‏:‏ هو شيخ‏.‏ وقال‏:‏ وعليّ بن المديني‏:‏ هو مجهول لا أعرفه‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ والصحيح الموقوف‏.‏ انتهى‏.‏ ورجال إسناد هذا الموقوف رجال الصحيح، فإن النسائي رواه في سننه، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة عنه‏.‏

وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، واللفظ له، والبيهقي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشرّ عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشرّ سبعين سنة، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة «ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏ وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه مقال معروف‏.‏ وأخرج ابن ماجه، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة «وأخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة مرفوعاً‏.‏ وأخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، عن سليمان بن موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه يعوده في مرضه، فقال‏:‏ إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين‏؟‏ فقال «لا»، قال فالشطر‏؟‏ قال «لا»، قال فالثلث‏؟‏ قال «الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر، ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» وأخرج ابن أبي شيبة، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم‏:‏ يعني‏:‏ الوصية‏.‏ وفي الصحيحين، عن ابن عباس قال‏:‏ وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الثلث كثير» وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عمر قال‏:‏ ذكر عند عمر الثلث في الوصية، فقال‏:‏ الثلث وسط لا بخس ولا شطط‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن علي قال‏:‏ لأن أوصي بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحبّ إليّ من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث لم يترك‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم، والبيهقي في سننه، عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تعلموا الفرائض، وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض، وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها» وأخرجاه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تعلموا الفرائض، وعلموه، فإنه نصف العلم، وإنه ينسى، وهو أوّل ما ينزع من أمتي» وقد روي عن عمر، وابن مسعود، وأنس آثار في الترغيب في الفرائض، وكذلك روي عن جماعة من التابعين، ومن بعدهم‏.‏